رواية : الشتاء
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
رواية : الشتاء
الشتاء
- 1 -
الغيوم تندفع نحو الفراغ المتبقّي في القبة الزرقاء، ترسم أشكالاً خرافية، وتحجب الشمس الغاربة!
والمطر بوّابات تدفّقت تكسر حدود المدينة، تدغدغ رحم الأرض، وتهيّئها لانبعاث جديد!
غاضبة ومزمجرة اندفعت السماء تصبّ ميازيبها، فخوت الشوارع كشرايين شاحبة هجرتها الدماء، وأغلقت المتاجر أبوابها، وتسرّب صمت مبلول ينفي موران المدينة الصاخب إلى كهف الموات، ولم تبق كوى مفتوحة على بداية الليل؛ خَلا بعض المتاجر ذات الواجهات الزجاجية، التي احتجز المطر قسماً من أصحابها، ومنعهم من العودة إلى بيوتهم، بينما تأخّر بعضهم في الإغلاق على ظنّ منهم بأنّ ساعة الحظ مجهولة! ومع إيغال المساء في ليلة شتائية باردة، أنشأ الأفق الغربي الموشّى بالحمرة يميل إلى الدكنة، في حين كانت قدماك ما تزالان تجرّانك خلفهما من شارع إلى آخر، بحثاً عن زبون يقبل أن يشتري منك ورقة "يانصيب" أُخرى، فتغيب داخل أحد المقاهي وراء رائحة الدخان الممزوجة بعبق الشاي الدافئ، وتطلب إلى أحدهم أن يشتري منك بطاقة، لكنه يستشيط غضباً،وينهرك النادل، فتضيع فرصتك في التمتّع بشيء من الدفء، وتخرج!
ثانية يتلقّاك الطريق متلفعاً بالبرد والمطر،باحثاً عن ملجأ يقيك من البلل! أصابعك الراشحة بالبرد لم تعد قادرة على الإمساك بأوراق "اليانصيب"، فتبدّلها بأصابع اليد الأخرى، وتُدخل الأولى في عبّك، منتظراً من الطبيعة أن تتراجـع عـن حصـار الكائنـات ، لكنّها تأبى، فتقـف مـوزّعاً في مدخل أحد الأبنية!
هل تعود إلى البيت، أم تقصد ثلّة الشباب الذين كنتَ قد تعرّفتَ عليهم مؤخراً؟ وعندما يمرّ أحدهم، تنادي على بضاعتك، بيد أنه لا يلتفت، فتبتسم بمرارة!
من يتوقّف في جوِّ كهذا لشراء بطاقة!؟
قدماك آخذتان بالتجمد؛ بعد أن نجحت المياه في التسلل إلى الحذاء المثقوب، وهاأنت تخرجهما بصعوبة، وتدلكّهما بحثاً عن شيء من الدفء! لكن الوقوف في تلك الزاوية يعييك، ولا أحد يجيء، فلا تجد بأساً في ولوج مقهى آخر وراء رائحة الشاي والدفء الإنساني المُستمّد من الشعور بالتواجد مع الآخرين! إلا أن اليوم الطويل والبرد يفعلان فعلهما في الجسد المنهك، فيداهمك السغب، ولا تعود قادراً على الاستمرار بعد، فتعبر الشوارع نحو مقهى "الشباب" حيث ثلة الشباب تلك! وحين تدنو من المكان؛ تلتقط أذناك تتمة الحوار المحتدم!
ـ أليست نذالة ما بعدها نذالة!؟ ما البطولة في أن تجتمع دول ثلاث على مدينة واحدة!؟
يتصاعد الدم إلى الوجنات!
ـ ولكن أين هي مشاركتنا نحن!؟
وتأخذ الآراء الممسوسة بغضب خفيّ بالتباين، فإذا هدأ الإعصار، وعادت إلى الحوار لفحة الهدوء، تنحنحتَ على استحياء، وتغلبّتَ على خجلك مستفسراً!
أنْ ما هي قصة "بور سعيد" هذه!؟
فيتوقّفون هنيهة، ثم يبتسمون، لقد رؤوك أخيراً، وهـاهم يحدثونك عن
المدينة التي هاجمها الصهاينة والإنكليز والفرنسيون؛ من غير أن تجد الكلمات لنفسها معادلات موضوعية، وتتحرّج من السؤال ثانية، لكن علامات الاستفهام الممتدة بينكم تفصح، فيتسابقون إلى الإيضاح، وببطء عشب يتململ تحت الثلج، يأخذ الفهم بالدنّو، فما تعود تلك الأغاني التي تذاع مراراً، والتظاهرات التي اجتاحت البلدة في الآونة الأخيرة ضّد حلف بغداد سديماً ملغزاً، وتشعر بأنك تحتاج إلى استعادة الحديث كلمة كلمة حتى تفهم جيداً!
ـ أن لا شيء كالألم يجمعنا! لقد قالها الأقدمون: "آخر الطب هو الكيّ"! ويبدو أن لا بديل لنا عن الوحدة!
ويشتعل أحدهم بالحماسة:
ـ فعلها أبو خالد، وأمّم القناة!
ـ بل قل فعلها العمال السوريون الذين فجّروا أنابيب النفط كي لا يستفيد منها العدو!
ومع تقّدم الحوار كان شيء ما تحت الشغاف يتململ، يتكسّر الكلام، يتثلّم، ويتوّقف، ثم يعود متدّفقاً!
ـ وكيف تريد للوحدة أن تتحقق بين أنظمة مختلفة، الإمارة هنا، والسلطنة هناك، و … !؟
يصيب الكلام مقتلاً، فتتحول الأعصاب إلى سهام قيد الإطلاق، ويتوتر الجو منذراً بالانفجار، ويحلّق الدخان مهوّماً!
ـ قل إنك ضد الوحدة!
ـ يــا أخي المسألة ليست على نحو ما ذكرت، ولكن قل لي أنت، كيف نتحّد مع الجزائر المستعمرة، أو محميات الخليج!؟
يوغل الكلام في مدار الاتهامات، وتتشعّب الردود، فتصعب عليك المتابعة، وتتساءل:
من أين يأتيهم كل ذلك الحديث المنمّق!؟
لكن الكلام يهمد دفعة واحدة، وتصافح المياه الشواطئ بوداعة صلح غير معلن!
ـ هه! ألم تجد عملاً بعد!؟
يتوجّهون إليك بالسؤال بعد صمت!
ـ آه! من أين يا صديقي!؟
وتلتمع العيون ثانية، ويتوهج الدم في الأوردة، يسقط الهدنة المُضمرة!
ـ أين الدولة مما يحصل!؟
تتداخل الآراء، فيما تتساءل ـ أنت ـ في سرّك مندهشاً!
ما علاقة الدولة بالموضوع!؟
إلا أنك لا تود أن تفقدهم، فتفقد بذلك حسّاً نامياً بالتعاطف، باندماج الفرد في المجموع، فتروح تسأل، وتقرأ، وتمحّص، وبمرور الزمن تبدأ الصورة تنهض على عودها، وتجد الكلمات لنفسها ماهيّات!
كان الليل يتقّدم منذراً ببرد قارس، فاستأذنتهم في الانصراف، ونهضتَ! الأضواء تنعكس على صفحة الرصيف المغسول، وحبة المطر ترسم في محيطها فقاعة دائرية، والشوارع تتشّح بالوحشة والخواء، وأنت تغذّ السير محتمياً بالجدران والشرفات ما أمكن، وبرغم البرد والبلل راحت الذاكرة تغزل في حلمها صورة ما يجري خلف تلك الجدران من اجتماع العائلة حول الموقد! الأطفال يلعبون فوق البساط الصوفيّ الدافئ، بينما تلتف يد الزوج حول كتف زوجته!
مسكوناً بالرعب عبرتَ الجسر! كان النهر يصطفق هادراً، والريح تعول في الظلام كذئاب جائعة، فراحت الذاكرة تستعيد الحكايات المرعبة التي كان الناس يتداولونها ؛ عن عصابات مجهولة تعترض السابلة في طريق عودتهم، وتسلبهم ما في جيوبهم، ومن يدري، إذْ ربما كانت ستسلبهم حياتهم أيضاً، لولا ستار الظلام الذي كان يحميها من الانكشاف، وأخذ الخوف يسري في الفقرات المتوجّسة المتأهبّة لتلقّي طعنة غادرة، فيما بدت خطاك مُضخّمة، وغريبة عنك!
كانت بدايات الحيّ غارقة في ظلمة موحشة تنداح على الأزقة والبيوت والمفاصل، تحيل بمجملها إلى حالة شبيهة بالهدوء، لكنّها ليست هدوءاً بمقدار ما هي استكانة أو انكسار! وبتؤدة حاولتَ أن تتجنّب برك الماء والطين التي تناثرت في الدروب الترابية الضيقة، لكن نباح الكلاب لم يترك للأعصاب المشدودة فرصة للراحة إلى أن وصلتَ! كان باب الحوش منتفخ الأوداج بفعل الرطوبة، فدفعته بصعوبة!
ـ من !؟
ـ أنا يا أماه!
وانتشر ضوء "اللمبة" الشاحب مرخياً على الأشياء كآبة قد لا تكون في أصلها، بقدر ما كانت النفس المسكونة بالهواجس هي التي تراها من خلال كربتها بتلك الصورة! وببطء، بغير ما شهية أخذتَ تلوك العشاء المُكوّن من البطاطس المقلية بالزيت؛ بعد أن سخّنَتها أمك، ثم اندسستَ في الفراش، وشيئاً فشيئاً أخذ الدفء يشيع في الجسد، والأطراف المُتعبة تسترخي غبّ يوم بارد، فتدافع شريط غير منتظم من الذكريات؛ مستغلاً حياد الإرادة الواهنة، بيد أن النوم ظلّ ينأى، ربما لأن وقع مياه الدلف المتسرّبة عن السقف في الآنية بقي يضغط على الأعصاب مناكفاً!
ـ أمّاه، لماذا لا تبعدين هذه الآنية، إنّها تمنعني من النوم!؟
ـ لأنّ المياه ستغرق الأغطية يا بنيّ!
وأغمضتَ عينيك على دوار مميت! سنوات بائسة من عمرك كانت قد تسرّبت من بين أصابعك بسرعة! قد تكون قليلة في عددها، ولكنها نقلتك من سنّ الطفولة إلى سنّ الشباب، بعد أن اقتنص الشحّ وضيق ذات اليد بهجة تلك السنّ وزهوها، وترك لها الخيبات والأحلام المخفقة وأوراق "اليانصيب"، التي ظلت عالقة بجلدك كوشم!
كانت صورة القرية قد بهتت، إذْ كان ثمة مسافة طويلة تفصلك عنها، مسافة تقاس بما تركته في الروح من أثر ربّما، وربّما بما استجّد من أمور في الأفق، وما أكثر جديدك في تلك الفترة! ذلك أن المرض كان قد شدّد من هجمته على أبيك، وما كان الدواء رخيصاً، وحين راح الشفاء يعزّ، وأظهرت الأيام لكم وجهها المربد؛ تركتَ المدرسة في منتصف المسافة، فيما اضطرت أمك للعمل في الحقول المجاورة للبلدة، وفي الوقت الذي كانت الأحلام ـ فيه ـ ما تنفّك تفقد بريقها على مذبح الأيام راحت الصرخة من مختلف أنحاء الجسد المتعب تعلو، فهل كنتَ ـ حقاً ـ قد قدمتَ إلى هذا العالم خطأً!؟
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى